الحمد لله رب العالمين، الذي أوجب الجهاد على عباده القادرين نصرة
للإسلام والمسلمين، فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا
قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ
أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي
الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ
كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، و الصلاة والسلام على قائدنا محمد القوي الأمين،
القائل: "انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ يُخْرِجُهُ
إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ
أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَلَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى
أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ "،
والقائل: " وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ".
وبعد
مقتطفات من سيرة الصديق الحبيب، القائد الشهيد، جمال أبو سمهدانة "أبو عطايا رحمه
الله"، ودوره في إشعال انتفاضة الأقصى وتصاعد العمليات العسكرية ضد الاحتلال
الصهيوني.
والذي
تمكن في مسيرته الجهادية من تأسيس لجان المقاومة الشعبية وجناحها العسكري ألوية
الناصر صلاح الدين، والذي كان يرى أنها حالة لدعم الحراك الثوري الفلسطيني وأنها
ستتراجع تنظيميًا حال استشهاده أو التوصل لأي حل آني للقضية الفلسطينية. ولقد قال لي
ذلك أكثر من مرة.
توطئة
قلت في مقالي والذي بعنوان: "هكذا
نجحنا في تأسيس كتائب القسام وتثبيتها في انتفاضة الأقصى ؟" أنني سأتحدث في
عدة نقاط منها؛ أهمية دور الشهيد جمال أبو سمهدانة "أبو عطايا" رحمه
الله في إشعال انتفاضة الأقصى، و سأكتب أيضًا في عجالة مقتطفات من سيرته العطرة،
لأن ذكر مناقبه وفضائله لا يسعها مجلد كبير، ولذا اقتضى الاختصار الذي يصف الحال
بشكل عام مع ذكر بعض المواقف. والله الموفق.
أكتب هذا بصفته صديقي الذي كان دومًا
يقول لي إنني أحبك في الله، ويعلم الله كم كنت أسعد بسماع تلك الجملة التي تنم عن
حسن خلقه وصفاء قلبه وعلو همته.
أكتب لأنني أرى وجوب الكتابة في حقه
لإظهار مكارم أخلاقه وصدق جهاده وأثر صلاحه وإصلاحه، ليفخر به المقربون ويقتدي به
المجاهدون ويدعو له بالمغفرة والرحمة وعلو المنزلة في الفردوس الأعلى المؤمنون
الراكعون الساجدون القانتون.
لقد
عاش أبو عطايا رحمه الله حياته محبًا لله ورسوله عليه الصلاة والسلام ولصحابته
الكرام، وكان دومًا يفتخر بحب ووفاء أبي بكر الصديق لرسول الله وبعدل عمر بن
الخطاب وبتجهيز عثمان بن عفان لجيش المسلمين وبشجاعة علي بن أبي طالب رضي الله
عنهم جميعًا.
وكان
رحمه الله محبًا للمسلمين ومتعاطفًا معهم ومناصرًا لقضاياهم، ولقد كان يحزن حزنًا
شديدًا بمجرد أن يسمع عن أي اعتداءٍ على المسلمين في أي مكان، ولقد كان يتمنى لو
أن له أنفس كثيرة يقدمها في سبيل الله دفاعًا عن الإسلام والمسلمين.
ولقد
كان رحمه الله معطاءً لشعبنا الفلسطيني المصابر، بل لكل المسلمين والمستضعفين في
العالم، رحمه الله وأعلى منزلته.
ولقد
قضيتُ معه سنينًا صديقًا وحبيبًا في علاقة لم يكن فيها أي تكلّف أو تملّق، فلم أرَ
منه إلّا المحبة و الصدق والإخلاص والوفاء.
بين يدي الموضوع
في
يوم تأخرنا ليلًا في منطقة كان لنا فيها شقة نبيت فيها وكان يتواجد فيها باستمرار
مرافقه حينها وهو الأخ ر .أ .غ حفظه الله، فقلت له: ألا تذهب للنوم ؟
فقال
لي: اذهب أنت وارتاح وأنا سأقضي ليلتي هنا، وكنّا حينها نجلس في شقة كان قد
استأجرها قريبًا لأمور تخص المقاومة ونشاطاتها، ولم يكن يوجد فيها أي فراش أو شيء
إلّا بعض الكراسي والطاولات. فنظرت له وقلت له أين ستنام لا يوجد هنا فراش؟
فقال:
سأتصرف لنفسي بنفسي أنت ما عليك المهم رُوْح ارتاح وتعال الصبح ستجدني نائمًا هنا،
وسواء كنت نائمًا أم متيقظًا طق على الباب حتى أفتح لك.
فقلت
في نفسي ربما يكون بعض الفراش في الغرف، فتجوَّلت في غرف الشقة فلم أجد أي فراش.
فقلت له: كما ترى وإن كنت أود أن تذهب معي إلى الشقة الثانية.
فقال:
أريد أن أخلو مع ربي فأنا بحاجة لقربه وأنسه بعيدًا عن أي أحد.
فقلت
له: كما ترى واستودعته الله وخرجت من عنده وبقي لوحده.
وبت ليلتي تلك في الشقة التي كانت معدة
للنوم والاستراحة، و في اليوم الثاني توجهت إلى الشقة التي تركته فيها وكانت
الساعة حينها السابعة أو الثامنة صباحًا، وطرقت عليه الباب وطرحت السلام، فعرف
صوتي وفتح الباب، فدخلت ونظرت فرأيت قطعة من الكرتون وفي آخرها يوجد حذاءه وكأنه
توسده.
فقلت له: بالله ما كان هذا هو فراشك
الذي نمت عليه الليلة وكنتَ متوسدًا حذاءك.
فقال لي وهو يضحك: صحيح هذا فراش فاخر.
الكرتونة جيدة والحذاء أصلي. أنا أحب هذه الخلوة مع الله بهذه البساطة لأكتشف
حقيقة ضعفي وحاجتي لله وحقارة الدنيا ومغرياتها. المهم أن يثبتنا الله على دينه
وعلى طريق الجهاد في سبيله وأن يستخدمنا لنصرة الإسلام وأهله وأن يوفقنا لخدمة
شعبنا والذي يعاني منذ عقود دون أن يلتفت إليه أحد.
هذا هو ملخص فحوى كلامه في هذا الموقف
الذي ارتسم في ذهني بل حُفر بطريقة رسخت في وجداني لن أنساها أبد الدهر.
ولقد كان رحمه الله سهلًا ليّنًا قريبًا من الناس
وفي
يوم زارني وهو يحمل في يده كيسًا صغيرًا وفيه مجموعة من زجاجات العطر الصغيرة والسبح
وسجادات الصلاة ، فقال بمجرد أن دخل البيت: أحضرت لك هدايا. وضحك.
فقلت:
خير لكن هذه هدية كبيرة.
فقال:
صحيح، افتح الكيس.
ففتحته
فإذا هو مليء بزجاجات العطر الصغيرة والسبح وسجادات الصلاة. فقلت له: ما هذا ؟
فقال:
زرت بعض الحجاج من أصدقائي وكانوا يُصرّون عليّ أن آخذ هذه الهدايا. وأنا سأهديك
إياها.
فقلت
له: بارك الله فيك. لكنني لا أحتاج هذا لأنه يوجد عندي في الدار بما يكفي وأكثر.
فقال:
أبدًا. لن أخرج وهذا الكيس معي. وضحك. وأصرّ عليّ أن آخذه.
وبعد
أن جلس ما شاء الله له أن يجلس. خرجنا، وفي الطريق قال لي أريد مسجدًا قريبًا
لأجلس فيه قليلًا فأنا أرتاح نفسيًا في المساجد.
فقلت
له حسنًا: ومشينا حتى وصلنا مسجد الشهيد عبد الله عزام في النصيرات، وجلسنا فيه
وصلينا ما شاء الله لنا أن نصلي ثم وبعد ما يقارب النصف ساعة خرجنا من المسجد ثم
افترقنا.
موقف يلخص موقفه من حركة فتح وأفكارها
وفي
يوم كنا نسير في شارع النصر بغزة فتوقفت سيارة بجانبنا ونزل منها ثلاثة شباب منهم
ع .أ. ح ، وهو من قيادات حركة فتح حاليًا، وسلموا علينا. ثم بدأ، ع .أ.ح ، بالحديث مع أبي عطايا حول حركة فتح وضرورة العمل باسمها
وإعادة نشاطها واسمها للصدارة واستطرد في الحديث بذكر ماضي الحركة الثوري.. إلخ.
فقال
له أبو عطايا: فتح حركة انتهت ثم هي حركة لا تستحق أن نرفع اسمها فالأمة اليوم
كلها تتجه نحو الإسلام وأفكاره ولقد انتهى زمن العلمانية وحركاتها، كما أن الحركة
اليوم يغلب عليها طابع النفعية لا الثورية كما أن قياداتها مجموعة من المتسلقين
المنتفعين و تربطهم علاقات قوية بالاحتلال الصهيوني.
ثم
قال لهم أنصحكم أن تجددوا فكركم وتعتنوا بعلاقتكم مع الله وأن تعملوا بعيدًا عن
هذا الكلام الذي انتهى فعليًا، ولا تنسوا أن هذه الحركة استنزفت جهود وطاقات
الشباب ثم تاجرت بها واستخدمتها للاستثمار المادي والمصالح الشخصية.
ثم
افترقنا وواصلنا مسيرنا، فقال لي: الشباب مساكين لازالوا يخدعون أنفسهم بفتح مع
أنهم يعلمون أن زمانها ولّى ولن يعود، وأنها لم تعد حركة ثورية، ولكنهم لا يريدون
أن يصدقوا ذلك، ويُفضِّلون أن يقضوا حياتهم على ذكرى ماضي الزمان على أن يعملوا
بغير اسم حركة فتح.
أبو عطايا وسلامة منهجه وفكره الإسلامي ودعمه للدعوة والدعاة
لم
يكن أبو عطايا رحمه الله عالمًا من علماء الشريعة ولم يكن كذلك من طلاب العلم
المتقدمين الذين يتبنون الفتوى بعد إعمال النصوص والترجيحات بين أقوال العلماء
وآرائهم، ولكنه كان مسلمًا مجاهدًا محبًا لدينه وعقيدته ويعمل بكل وسعه لنصرة
الإسلام وأهله، ولذا قام كثيرًا بتوفير الدعم المادي والمعنوي لطلاب العلم الشرعي
ومراكزهم وجمعياتهم وأنشطتهم، وعلى رأس هؤلاء جمعية بن باز الخيرية فله الفضل
الكبير في تطويرها ونقل تثبيت مقراتها ودعمها ماديًا ومعنويًا، وذلك دعمًا لنشر
العلم الشرعي قربة إلى الله تعالى ورجاء أن تكون إحدى حواضن الحراك الثوري
الإسلامي في فلسطين. أسأل الله أن يكتب أجره وأن يجزيه خير الجزاء وأن يكتب لطموحه
وفكرته النجاح والتوفيق الميداني وأن يكتب له أجر ذلك كله. مع العلم أنني غير مطلع
على آخر تطورات نشاط الإخوة في الجمعية منذ زمن بعيد. أسأل الله لهم ولكل العاملين
لدين الله التوفيق والسداد.
وأذكر
يومًا التقيت فيه الأخ ن . س. حفظه الله وهو من المطلعين والناشطين في جمعية بن
باز الخيرية، وكان ذلك بعد استشهاد أبي عطايا رحمه الله بفترة قريبة، وأثناء
حديثنا عنه رحمه الله قال لي الأخ: لقد تأثرنا كثيرًا بعد استشهاد أبي عطايا رحمه
الله، فلقد كان لنا عونًا وسندًا معنويًا وماديًا وميدانيًا.
لم
يكن أبو عطايا يومًا مجتهدًا في أي مسألة شرعية ولا مترجلًا فيها، ولكنه كان نعم
الرجل الوقَّاف على الحق، ولقد كان يرجع إلى العلماء وكبار طلاب العلم ويسألهم
ويستفسر منهم حتى في دقائق الأمور، ولم يأخذ يومًا قرارًا خصوصًا من القرارات
الفيصلية في حياته الخاصة أو العامة ومنها مسيرته الجهادية إلّا بعد الرجوع لأهل
العلم، ولذا فإن كان ما اجتهد في تبنيه صوابًا فله أجران وإن كان خطئًا أو مرجوحًا
فله أجر، لأنه اجتهد ما بوسعه وهذا هو المطلوب ممن هو في مثل حالته. ولقد قضى
حياته ولسان حاله ومقاله وفعاله يقول: وعجلتُ إليك ربِّ لترضى.
ولقد
أهداني قبل استشهاده كتاب، "منهج اليهود في تزييف التاريخ"، وطلب مني أن
أختار له بعض الكتب المتعلقة بالعلوم الشرعية، قال: لكي أقرأ وأستفيد وتستفيد منها
الزوجة والأبناء، ولقد فعلتُ ذلك، إلّا أن الظروف لم تسمح لي بتسليمه إياها بالرغم
من كثرة لقاءاتنا إلى أن استشهد فأعطيتها بعد ذلك للأخ خالد شعث "أبو
مالك" رحمه الله على أنها أمانة تصل لبيته، وذلك بحكم العلاقة الأسرية التي
كانت بينهم.
استعداده للحج ورفض الحكومة المصرية مروره من أرضها وإرجاعه
في
عام 2005م جهّز نفسه للحج وخرج مع الحجاج قاصدًا بيت الله إلّا أن الحكومة المصرية
منعته من السفر و العبور من أراضيها، فرجع حزينًا مهمومًا لعدم مقدرته على أداء
فريضة الحج، مع العلم أن الحكومة المصرية قد سمحت لكل قيادات المقاومة الفلسطينية
من العبور للحج في ذلك العام.
شجاعته وإقدامه وحبه للشهادة في سبيل الله
من
المتعارف عليه عند الجميع حتى الأعداء أن أبا عطايا كان شجاعًا لا يخاف في الله
شيئًا، وكان سريع التلبية إذا جد الجد واستُلَّت السيوف، بل كان هو مسعر الحرب
الذي لم يغمد سيفه منذ أن استله في وجه الغزاة والمعتدين، ولقد كان نعم الرجل
الصادق الصدوق الذي ينطبق عليه قول الرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ
فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً،
أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ، يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ،..".
ولقد
باع نفسه رخيصة في سبيل الله ولم يبخل في يوم بنفسه أو ماله أو وقته في سبيل نصرة
المظلومين ومقاومة الطغاة المعتدين، ولقد كان تواقًا للشهادة في سبيل الله محبًا
لها أيما حب، ولقد كنتُ أجلس معه ذات يوم في مقبرة الشهداء في رفح، وأثناء خروجنا
من جهتها الشرقية وإذ به يقف على قبر ويقول لي: هذا أحد أعز أصدقائي لقد لقي الله
شهيدًا وفاز بالشهادة قبلي لصدقه مع الله أكثر مني، ثم وقف وبدأ يحدثني عن ذلك
الشهيد والذي لا أستحضر اسمه الآن، ثم قال لي ادعُ الله أن يرزقني الشهادة فلقد
اشتقت لربي وللذين سبقوني فوالله إن الدنيا حقيرة لا تساوي عند الله شيئًا، وهي
عندي أقل من أفكر فيها أو أحب البقاء فيها.
وإنني أحسب أن أبا عطايا رحمه الله من المؤمنين الذين
قال الله تعالى فيهم: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ".
عاش حرًا أبيًا شهمًا معطاءً
انضم
أبو عطايا لحركة فتح منذ صغره بهدف مقاومة الاحتلال الصهيوني ولقد نجح في كثير من
الجهود، وسطر الملاحم والبطولات منذ نعومة أظافره، ولم يكن انضمامه لحركة فتح
قناعة منهجية أو فكرية بل لأنه كان يريد أن يقاوم الاحتلال ويدافع عن شعبه ولم تكن
حينها توجد على الساحة الفلسطينية أي جماعة إسلامية مسلحة تُذكر، إلّا أنه وبعد
ظهور التنظيمات ذات السمت الإسلامي بدأ أبو عطايا بالتقارب معها وقدَّم لها
المعونة الميدانية التي كان يعجز جل قادتها ومخضرميها عن إنجازها.
لم
يكن أبو عطايا ينتمي لحركة فتح قلبًا وقالبًا عقيدة وفكرًا بل كان يسير معها من
منطلق هذا هو الموجود، بل لم يعد يقتنع بحركة فتح كحركة ثورية أصلًا خصوصًا بعد
اغتيال خليل الوزير "أبو جهاد"، وقاد كثيرًا من النشاطات المناهضة لها
لأنها ترعى أوسلو وخيارها السلمي الاستسلامي كما أنها تمثل الحاضنة لكثير من
الخونة والفاسدين الذين نهبوا أموال الشعب وعبثوا في أمنه و مقدراته وباعوه
للاحتلال الصهيوني بثمن بخس دراهم معدودة وامتيازات محدودة، وكان يدعو دومًا
لإشعال نار الجهاد ضد الاحتلال الصهيوني الغاشم.
وفي عام 1997 اعتقله جهاز الأمن الوقائي؛ بسبب نشاطاته
الميدانية والفعلية المناصرة للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال الصهيوني، و قضى في
السجن سنة وسبعة أشهر بسبب ذلك. قضى منها ما يقارب سنة في سجن الأمن الوقائي
والباقي في سجن للأمن الوطني.
حتى أنني أذكر يومًا ونحن نسير في غزة وقف
قليلًا ونظر إلى مبنى مقصوف وقال سبحان الله؛ السلطة اعتقلتني هنا بسبب المقاومة ومناصرتي
لها ودفاعي عن المقاومين والآن الاحتلال الذي تدافع عنه السلطة يقصف نفس المكان
الذي كنت مسجونًا فيه.
أبو عطايا يأوي يحيى عياش "أبو البراء" رحمهما الله:
لجأ
يحيى عياش إلى غزة على أمل أن تكون ملاذًا آمنًا بعد أن ضاقت به الضفة بسهولها
وجبالها بسبب ملاحقة الاحتلال الصهيوني والسلطة الفلسطينية له، إلّا أنه لم يجد ما
كانوا يرجوه، بل وجد المقاومة في غزة تئن من مضايقات السلطة في داخل مدنها
ومتابعات الاحتلال على مفاصلها وطرقها.
في
هذه الظروف كان إيواء المطلوب الأول للاحتلال الصهيوني أمرًا في غاية الخطورة
والمغامرة، حيث كان الاحتلال يطلب رأس الشهيد يحيى عياش حيًا أو ميتًا، ولذا تخلى
عنه جل قيادات حماس وغيرها عن إيوائه خوفًا من تبعات ذلك، وفي هذه الحلكة والمحنة
تقدم الشهيد جمال أبو سمهدانة "أبو عطايا"، ليعين ويساند يحيى عياش
"أبو البراء" رحمه الله، وبالفعل اصطحبه إلى بيته وآواه وأيده ونصره
وآزره، فكان هو البلسم الذي جبر خاطره وآمن روعته، فكان نصرة الله التي نصر بها
يحيى عياش ومأمنه الذي آواه إليه.
مكث
أبو البراء رحمه الله في بيت صديقه الجديد الذي لم يلتق به يومًا في ساحة دراسة أو
متنزه أو ملاعب الصبا والطفولة، ولكنه كان لقاء أهم من كل اللقاءات وأصدقها
وأنقاها حبًا ووفاء.
عاش
أبو البراء رحمه الله في بيت أبي عطايا رحمه الله، وكان يتنقل مع أبي عطايا والذي
كان يتنقل به ويتجول غالبًا بسيارات السلطة حتى لا يشك فيهم الاحتلال فيعترض
طريقهم بالقرب من المستوطنات أو نقاطه حينها أو يشك بهم أمن السلطة فيوقفهم أو
يلاحقهم.
عاش
أبو البراء آمنًا مطمئنًا في بيت الرجل الشهم أبي عطايا يتقاسم معه الأمن والأمان
والخبز والطعام.
مكث
يحيى عياش "أبو البراء" في بيت أبي عطايا ما شاء الله له أن يمكث وعند
مفارقته لبيت أبي عطايا للانتقال إلى مكان آخر، شكر أبو البراء أخيه في الإسلام
والتضحية والفداء أبا عطايا وزوجته الفاضلة أم عطايا حفظها الله، وقال لأم عطايا
بعد أن شكرها جزيل الشكر: سامحيني لا أملك شيئًا غير هذا المصحف لأقدمه لكِ لشكرك
على ما قدمتيه لي من رعاية واهتمام وأعطاها المصحف، وانطلق مع أبي عطايا حيث تسلّمه
أخ آخر ليكمل معه مشوار الحماية والرعاية.
أهمية دوره القائد الشهيد جمال أبو سمهدانة "أبو عطايا رحمه
الله"، في إشعال انتفاضة الأقصى:
أبو عطايا يؤجج نار الجهاد تحت أقدام الاحتلال في غزة
كان
لأبي عطايا رحمه الله الدور الأبرز والأهم في إشعال جذوة الكفاح المسلح في انتفاضة
الأقصى، وكان رأس الحربة في ذلك.
فلقد
انطلقت انتفاضة الأقصى في أجواء تشوبها الحيطة والحذر من جميع الثوار حرصًا من غدر
الاحتلال الصهيوني أو السلطة الفلسطينية.
في
هذه الظروف والتي كانت بحاجة ماسة لمن يكسر الحواجز النفسية والمعنوية والميدانية،
تقدم أبو عطايا رحمه الله تحفه رعاية الله وحفظه، تقدم ولسان حاله ومقاله وفعاله
يقول: " وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى"،
ويقول كما
قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنْ أَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ
فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ".
وكان لسان حاله ومقاله وفعاله دومًا يقول:
لنـأخـذنَّ بحد السيف مطـلـبنا *** حـتى يُـقال لـنا يا نـعم مـا
فعـلوا
ولسنا نرى للـذل نحني رقـابنا *** وإن كسـروا بالظلـم أعنـاقنا كسـرا
فنحـن بنو من لقنـوا كل معتـد *** دروسًا في التاريـخ شابت لها
ذكــرا
أبـاة حمــاة لا تفـل جنـابنـا *** وإن تُقبـل الغارات نعـصرها عصـرا
فكان رحمه الله يعمل ليل نهار على الرصد والتخطيط والتنسيق وتوفير
اللوازم والتجهيز والتنفيذ حتى أنه كان شعلة الجنوب والوسطى وغزة والشمال، ولم تكن
حينها قد نشطت أي حركة باسمها الرسمي وكان مجموع الثوار يعملون بدون أسماء أو
بأسماء آنية، واستمر رحمه الله في مواصلة صب الزيت على النار تحت أقدام الاحتلال.
جهوده في السعي لتحرير الأسرى وصولًا إلى عملية خطف شاليط
لقد
كان رحمه الله كثير الذكر للأسرى والألم على معاناتهم وكان متعاطفًا معهم أيما تعاطف،
وكان يرى بأن العمل على فكاك أسرهم أمانة في عنقه، ولقد حاول كثيرًا في سبيل
فكاكهم.
أذكر
هنا على سبيل المثال لا الحصر ما اعترف به الشباك الإسرائيلي في عام 2006م بأنه
أحبط عملية اختطاف جنود صهاينة وقتلهم على أيدي مقاومَين من لجان المقاومة الشعبية،
حيث إن الشهيد أبو عطايا رحمه الله كان هو المشرف والموجه مباشرة لتلك العملية مع
العلم أنه كان في ذاك الوقت هو القائد العام للجان المقاومة الشعبية.
وكان
المخطط للعملية أن يقوم المقاومَين بخطف جنود في ما يسمى بتل أبيب وقتلهم ودفنهم
للمساومة عليهم بأسرى فلسطينيين.
وكان
رحمه الله سببًا أساسيًا في تحريض المقاومة الفلسطينية على القيام بعملية
"الوهم المتبدد"، ولقد كان له الدور الأساس والأهم في البدء بالعملية
البطولية التي تم خطف الجندي الصهيوني جلعاد شاليط فيها، ومن ثم فرّج الله بها عن
أكثر من ألف أسير فلسطيني من سجون الاحتلال الصهيوني الغاشم.
قيادته لتفجير أول دبابة ميركافا للاحتلال الصهيوني
ولقد
أكرمه الله وشرّفه بأن وفقه لأن يكون تفجير وتدمير أول دبابة ميركافا على يد
مجموعة من المخلصين بقيادته.
قال
لي الأخ ح. ث حفظه الله، كنتُ أتجول بالقرب من الطريق التي يسير عليها الاحتلال
أثناء ذهابه وإيابه إلى مستوطنة نتساريم لاحظتُ منطقة يمكن الوصول منها إلى نقطة
نزرع فيها عبوة على طريق دبابة الميركافا، ولكنني ترددتُ خوف الإقدام على القيام
بذلك فتكون مغامرة خاسرة، فقررتُ أن أتواصل مع أبي عطايا بحكم أنه كان قائدنا
ميدانيًا ثم لأنه جريء وبإمكانه أخذ قرار بالموافقة على العملية وتبنيها وتحمل
تبعاتها وفي حال رآى أن الأمر صعب فسأصرف النظر عنه كلية.
وبالفعل
تواصلتُ معه والتقيت معه على دوار مخيم البريج وكان يلبس لباسًا مناسبًا لسهولة
حركته، وتوجهنا إلى المنطقة وعاينها وبعد الدراسة المتأنية وافق عليها، وشرع في
توفير اللازم، ومن ثم جاء موعد التسلل إلى المنطقة وزرع العبوة فيها، وبالفعل تم
ذلك بمشاركة أبو عطايا رحمه الله في كل لحظة و خطوة، حتى جاء اليوم الذي أسعد كل
حر أبي وتم تفجير الدبابة وتدميرها ومقتل طاقمها.
قلتُ:
ولقد كانت هذه العملية فيصلية في تاريخ المقاومة الفلسطينية في وجه الاحتلال الصهيوني
فلقد كسرت هيبته وأثبتت أن ترسانته العسكرية أوهن من بيت العنكبوت، حين يواجهها
الرجال بقوة إيمانهم وثباتهم بالرغم من قلة إمكاناتهم.
لمحة عن جهوده في متابعة المقاومة وتصعيدها في القدس و الضفة
كان
رحمه الله يتواصل على الدوام مع الثوار في الضفة الغربية والقدس المحتلة وكان
يحرّضهم على الجهاد ومقاومة المحتل، وكان يعمل كل ما بوسعه لتوفير ما يلزم الثوار
هناك ولو من خلال التنسيق مع الداعمين أو الميسورين، ولا أنسى ذات يوم وهو يتكلم
مع أحد الثوار من خلال الجوال وهو يقول له: نحن والحمد لله طردنا الاحتلال من غزة
بصبرنا ومقاومتنا له والآن المطلوب منكم أن تجتهدوا وأن ترتبوا صفوفكم وتواصلوا
مقاومتكم للمحتل حتى تطردوه كما طردناه من عندنا.
وكان
رحمه الله مقتنعًا تمامًا بالإعداد المبكر في الضفة الغربية والقدس لمواصلة مقاومة
الاحتلال في الداخل والقدس والضفة، وكان دومًا ينصح الثوار في القدس والضفة
بالقيام بذلك.
وكان
له كثير من الجهود الميدانية في العمليات العسكرية التي كانت تحدث في القدس والضفة
والداخل، جهود تحريضية وأحيان تنسيقية أو إدارية توجيهية.. إلخ.
دوره في التنسيق بين الثوار وتشجيعهم على العمليات المشتركة
فلو
تتبعنا خط سير المقاومة لكل حركة أو تجمع لوجدنا لأبي عطايا رحمه الله سهمًا
كبيرًا في إنجازاتهم.
كما
أن له الفضل الكبير في إنجاح كثير من العمليات المشتركة بحكم علاقته الطيبة مع
جميع الثوار.
كما
أن كبار قيادات المقاومة كالشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة وغيرهم كانوا يرسلون إليه
ليشاوروه ويأخذوا رأيه في آخر التطورات الميدانية عندهم.
إحسانه ومساندته للفقراء والمساكين والمستضعفين
ولقد
كان رحمه الله كثير الصلاة وصيام النوافل وكثير الإحسان للفقراء والمساكين والمستضعفين
بحسب قدرته واستطاعته.
في
يوم كنا نجلس في مقبرة الشهداء في رفح وكنا نحب الجلوس فيها لما فيها من الموعظة
والتذكير بالموت والآخرة، فإذا بأحد الإخوة يتصل عليه فتفاجأتُ من وجود الجوال
معه. فقال لي: أنا أحمل الجوال انتظر اتصال هذا الأخ فهو مصاب ويريد أن يكمل علاجه
وأنا وعدته أن أسعى في تسهيل أموره وتوفير بعض الأموال له، والحمد لله تيسر ذلك،
فأرسلت له رقم هاتفي مع أخ وأبلغته أنني أنتظر اتصاله. ثم استأذنني وقال: سأستقبله
حتى لا يمشي كثيرًا فوضعه الصحي لا يسمح له بذلك وأيضًا أريد أن أعطيه المال بيني
وبينه حتى لا يُحرج منك. وكان الأخ قد دخل من الجهة الشمالية للمقبرة واستقبله أبو
عطايا رحمه الله بكل لطف واحترام، أما أنا فبعد أن سلمت على الأخ ابتعدتُ وعدتُ
حيث كنا نجلس، أما أبو عطايا رحمه الله فتبادل معه الحديث بعض الوقت ثم عاد إليّ
بعد أن أعطى الأخ ما تيسر من مال وبعد أن أخبره ماذا يفعل وأين يذهب لاستكمال
علاجه وأنه قد رتب له الأمور.
ثم
عاد أبو عطايا رحمه الله والحزن والألم يعلو وجهه وقال لي: هؤلاء الشباب يستحقون
كل الحب والوفاء هؤلاء هم عماد الثورة وعمودها التي تستند عليه، هؤلاء الشباب هم
الذين يستحقون أن تُنفق عليهم الأموال وأن تتوفر لهم كل لوازم الحياة، لكن ماذا
أفعل فالعين بصيرة واليد قصيرة، ثم سكت برهة مهمومًا على أحوال الشباب الذين يضحون
بأغلى ما يملكون ولكنهم لا يجدون الرعاية والاهتمام والإنفاق المطلوب ممن يملكون
الأموال والنفوذ.
زهده رحمه الله
في
يوم قال لي: اقترض أحد أصدقائي مني بعض الأموال ليدخل في تجارة مع أحد التجار
فأعطيته ما تيسر، ثم تبين لصديقي أن الرجل نصاب وأنه تصرف في الأموال، فقال له: إن
هذه الأموال لأبي عطايا وسأبلغه أنك كذبت عليّ وأهدرتها، فخاف الرجل لما علم أن
المال لي وبدأ يطوف على الناس ليأخذ مني مهلة حتى يجمع هذا المال، ومع كثرة قلقه
من الموضوع واصل جهوده حتى جلس معي بحضور بعض الإخوة وقال لي: أنا خائف جدًا وأشعر
أنك ستخرج لي في أي وقت وأي مكان، ولذا قررت أن أجلس معك بأي طريقة لأوضح لك أنني
معترف بالمبلغ وسأحاول توفيره في أقرب وقت، وها أنا أمامك فافعل بي ما شئت إن أردت
أن تسجنني فأنا جاهز حتى لو أردت قتلي فافعل فأنا لم أذق طعم النوم منذ علمت أن
الأموال لك.
ثم
تنهد أبو عطايا رحمه الله وقال لي: مسكين هذا الرجل يظن أنني سأسجنه أو أتصرف معه
بقسوة، ونسي أنني فارقت الدنيا وما عليها في سبيل الله ومرضاته وأنني منشغل في
الجهاد لأنها التجارة التي لا تبور وأنها رابحة في كل الأحوال.
فسألته:
ماذا فعلت معه.
فقال:
قلت له اذهب يا رجل فإنني سامحتك في المبلغ ولا أريده منك واعلم أنني قادر على أن
أفعل كل ما تتوقعه ولكن والله لن أفعل شيئًا أظلمك به فألقاه أمامي عند الله، اذهب
فلقد سامحتك في المبلغ ولكن اعلم أن أموال الناس المتبقية في رقبتك ستأخذك إلى
جهنم إن لم ترجعها لأصحابها.
ثم
ضحك وقال: المرة التي دخل مالي فيها التجارة الدنيوية ضاع كله ولكن عند الله لن
يضيع.
موقف آخر
في
يوم ونحن نسير في غزة مرّت بجوارنا سيارة مرسيدس حديثة سوداء اللون، ولكن صاحب لم
يطرح علينا السلام ولم يلوح حتى بيده، فوضع أبو عطايا يده على رأسه وقال: والله
إنني أتعاطف مع هؤلاء الناس، مساكين لا يعرفون لذة الجهاد وأثره في انشراح الصدر
والرضى عن النفس، يظنون أن الحياة هي في ركوب السيارات والفلل الفارهات، ونسوا أن
الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة وأنها جيفة وأن من ترك الجهاد فقد حُرم
الخير الكثير، لا أقول هذا عن عجز بل كان ولازال بإمكاني أن أترك الجهاد وألهث خلف
الدنيا ولعاعها ولكنني رضيت بما قسمه الله لي ولن أبذل جهدي في غير تأمين مستقبلي
يوم لا ينفع المال ولا الولد يوم لا ينفع إلا العمل الإيمان و العمل الصالح.
وكان
كثير التغني بكلمات العالم العابد الزاهد المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله:
يا
عابدَ الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ
كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه *** فنحورنُـا بدمـائِنا تَتَخْضَبُ
أو
كان يُتعبُ خيله في بـاطل *** فخيـولنا يوم الصبيحة تَتعبُ
ريحُ
العبير لكم ونحنُ عبـيرُنا *** رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد
أتـانا مـن مقالِ نبيِنا *** قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا
يستوي غبـارُ أهلِ الله في *** أنفِ امرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا
كتابُ الله ينـطقُ بيننا *** ليسَ الشهيدُ بميـتٍ. لا يكذبُ
تسامحه رحمه الله
كان
رحمه الله متعاليًا على الدنيا كثير الذكر للموت والجنان والنعيم وكان متفائلًا
بواسع رحمة الله تعالى، وكان دائمًا يخفض جناحه للمسلمين ولم أذكر أنني سمعته يرفع
صوته على عموم الناس. إلّا أنه كان يرفع صوته على الإخوة في الميدان بما تستدعيه
إدارة العمل وهذه صفة مدح وليس ذم، فالقائد الناجح هو الذي يضبط إدارة الميدان كل
بحسب الأسلوب الذي يتطلبه للنجاح والإنجاز.
في
يوم كان يسير بجوار الجندي المجهول في غزة، فأراد أن يقطع الطريق من وسط المنتزه وكان
معه إخوة اثنين، فلما قطع من وسط الجندي المجهول داس على العشب وهو غير منتبه،
فسمع صوتًا غاضبًا تجاهه فنظر فإذا بأحد العمال في منتزه الجندي المجهول يرفع صوته
عليه ويقول له أنت كيف تمشي هنا وبدأ بالصراخ الغاضب عليه، فقال أحد الإخوة الذين
معه: أنت تعلم أنك ترفع صوتك على مَن ؟ فقطع أبو عطايا كلام الأخ وقال له: هو يرفع
صوته عليك أم عليّ ؟ فقال: عليك. فقال: إذن لا تتدخل حقه يغضب هو ينظف العشب من
الصبح ونحن ندوس عليه هذا خطأ منا. ثم قال للعامل: أنا متأسف جدًا وأنا أُقدِّر
تعبك ودوافع غضبك. فهدأ العامل. ثم قال له أبو عطايا: أرجو أن تسامحنا وأن تدع
الله أن يوفقنا. وواصل طريقه. رحمه الله وأعلى منزلته.
تواضعه رحمه الله
كان
رحمه الله يحب أن يصلي في مسجد خبيب –الدعوة- وكان كثيرًا يقوم على تنظيف المتوضأ
والحمامات، ويرفض أن يساعده أي أحد من الإخوة ويقول: هذا العمل يربي النفس ويردعها
عن الكبر، فأنا أجلس دومًا مع المتنفذين في غزة وهذا يُدخل الغرور والكبر للنفس
ولذا أعالجها بهذا العمل، وأيضًا هذا العمل فيه الأجر والثواب العظيم من الله
تعالى.
وفي
الختام: أسأل
الله تعالى أن يجمعه بمن يحب في الفردوس الأعلى. فلقد جمع الإقدام والفداء والتضحية
في سبيل الله مع الحب والتواضع والرحمة والعطف على المسلمين أحباب الله.
والله
من وراء القصد
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه/ الباحث في الشؤون الشرعية والسياسية
تيسير
محمد تربان
أبو
عبد الله
فلسطين
. غزة
20/2/2018م