الحمد
لله الذي لا شريك ولا ندَّ له القائل: "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وسيد الموحدين
القائل: "مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ
مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ".
وبعد
ضرورة البراء من الكافرين، وأهميته في الحفاظ على الدين
توطئة
ملة إبراهيم هي التوحيد وهي ملة كل
الرسل والأنبياء على مدار الزمان وعلى اختلاف المكان، وهي التوحيد الذي بعث الله
تعالى الرسل لتبليغه وتعليمه للناس، فلا فرق ولو قيد أنملة بين ملة إبراهيم وغيره
من الرسل صلى الله عليهم جميعًا، وهذا ما قاله رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث
قال: "الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى
وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ"؛ أي؛ الأنبياء أصلُ دينهم واحد وهو التوحيد، وشرائعُهم
في الفروع مختلفة. فالعَلَّات: الضرائر؛ أولادُهن من أب واحد، والأمهات شتى.
ضرورة البراءة من شخوص الكفار قبل البراءة من عقائدهم
قال
المولى جل في علاه: " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي
إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ
مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ.."، في بداية سورة الممتحنة نهى الله تعالى عن موالاة
الكفار وفي آية رقم أربعة ذكر لنا لمحة عن سيرة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام
ومن معه من المؤمنين حيث تبنوا عقيدة التوحيد ودعوا إليها وفاصلوا قومهم عليها؛
ولقد حكا الله تعالى عنهم أنهم قالوا لقومهم: "إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ
وَمِمَّا تَعْبُدُونَ"، فكان التبرؤ من القوم
قبل التبرؤ من عقيدتهم ومعلوم أن هذا يقطع الطريق على الشيطان ويسد منافذه التي
يدخل منها لضعاف النفوس، فلو كان التبرؤ من عبادتهم فقط فإنه لا يمنع المجالسة
والمعاشرة الزائدة عن الحاجة وهذا يجلب الحب والود تدريجيًا مهما حاول المسلم
التفلت من تبعات ذلك، وهذا ما نلاحظه اليوم مشتهر في تعاملات كثير من المسلمين حتى
اقتحم الشيطان نفوسهم وزين لهم الحياة والتعامل مع الكفار أقصد التعامل الزائد عن
الضرورة حتى أصبحت التعاملات مختلطة ومع قلة انشغال المسلمين واهتمامهم بفهم
عقيدتهم وتفاصيل ما يلزمهم أصبحنا نراهم يقلدون الكفار في كثير من التعاملات
والاحتفالات ولو سألتهم لقالوا: لا يوجد ما يمنع ذلك شرعًا ولا شيء فيه ولا حرج، حتى
من يقر بحرمة ذلك فتراه يقول ولكن الواقع اليوم مختلف عن الزمن السابق واليوم نحن
نعيش مع بعض وبيننا تعاملات كثيرة.. إلخ. قلتُ: ولو أنهم سلكوا نهج سيدنا إبراهيم
عليه الصلاة والسلام وقومه في التبرؤ من الكفار والتصريح لهم بذلك لما وقعوا في
ذلك، وما ذاك إلّا أنهم استحبوا ذلك وزينه لهم الشيطان فأغواهم عن شريعة الرحمن
فضلوا في ذلك ومالوا حيث مال الكفر، فاختلط دينهم بكثير من الشوائب بل و الطوام
التي لا ينجو صاحبها عقاب الله تعالى. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
المطلوب من المسلم لكي يحافظ على دينه
فالصواب فيما سبق ولكي يحافظ المسلم على
دينه ويسلم في آخرته، أن يدرس عقيدته وليتعلم حدود الله في ذلك، لا أن يكون كحاطب
ليل ربما حمل في حجره أو على رأسه ما يؤدي إلى ضياع دينه ومن ثم هلاكه وخسرانه
آخرته. وإن العلم في ذلك واجب وجوبًا شرعيًا يأثم تاركه، قال تعالى: "
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، وإن من لوازم العلم بلا إله
إلّا الله، هو العلم بحدود الولاء والبراء والذي يترتب عليه حدود العلاقة مع
الكفار بشتى أصنافهم وأحوالهم كل بحسبه.
مع
مراعاة الاهتمام والحرص على تأليف قلوبهم ودعوتهم، وصلة من استثنتهم الشريعة
الإسلامية بالأدلة الصحيحة، كما في حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
في زيارتها لأمها، فعن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما، عَنْ أَسْمَاءَ
بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي
وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ
أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ: "نَعَمْ
صِلِيهَا".
ومن ذلك معرفة أحوال الكفار والتفرقة
بين المحارِب وغير المحارِب، وعلى كلٍّ فإن البراءة من الكفار وعقائدهم بالجملة هي
الأصل في التعامل معهم حتى مع غير المحارِبين منهم، فهم الذين يسبون الله تعالى
ودينه ونبيه ليل نهار ويتواطؤون على الطعن في الإسلام وتشويهه وأحسنهم حالًا من لا
دين له ولا يعبد شيئًا فهو عابد هواه وشيطانه وهل هناك أشر من هذا وأضر، أو
النصارى الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة أو اليهود الذين يقولون نحن أبناء الله
وأحباؤه، فكيف يستحسن المسلم الجلوس مع هؤلاء ومعاشرتهم بحجج واهية لا تصلح لذلك
ولا تبرره بل ولا ترقى لأن تكون شبهة مصلحة، فالواجب هو البراءة من دينهم ومنهم
وعدم التعامل معهم إلّا في الحدود التي سمحت بها الشريعة وتفصيلها موجود في كتب
علماء الأمة الأوائل الذين اتفقت على صلاحهم وعلمهم وورعهم، أما المعاصرون فللأسف
فإن الأمور اختلطت عند كثير منهم عمدًا أو استهتارًا أو استهانة بدين الله، وخرجت
الفتاوى منهم في ذلك يقودها الجاه أو المال أو حب الراحة والدعة. وحسبنا الله وتعم
الوكيل.
كلام نفيس لابن تيمية حول
مولاة المسلمين والبراءة من الكافرين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والمؤمن
عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن
ظلمه؛ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى: "وإن طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي
حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب
المقسطين" إنما المؤمنون إخوة، فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر
بالإصلاح بينهم، فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين؛ فما أكثر ما يلتبس أحدهما
بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته
وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله
لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه
والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية
وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة
والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة،
فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه
لحاجته.
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم
الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم". أ - هـ
وفي الختام: أسأل الله تبارك وتعالى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن،
وأن يهدينا ويهدي بنا، وأن يثبتنا على دينه حتى نلقاه عليه.
هذا والله ولي التوفيق
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه/ الباحث في الشئون الشرعية والسياسية
تيسير محمد تربان
فلسطين . غزة
2/3/2018م
إرسال تعليق