الحمد
لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الهادي إلى صراطه المستقيم، والصلاة والسلام على
أشرف الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
وبعد
الإخلاص ودوره في التوفيق الرباني
توطئة
خلق
الله تعالى الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له، ومن كرمه ولطفه ورحمته بعباده
جعل علاقة العبد به قربًا أو بعدًا مقرونة بإخلاصه في عبادته وبحسب قدرته، ولم
يجعل لذلك سلطة لأحد على أحد ولا وصاية لأحد على أحد ولم يجعل للوساطات معيارًا
يُقرِّب ذي الحسب والنسب ويرفعه ويُبعِّد المغمور ويخفضه، حتى قال سيد الأنبياء
والمرسلين عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها والتي هي بضعة
منه كما قال: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي»، قَالَ
عليه الصلاة والسلام موضحًا ومؤكدًا العلاقة بين الله وعباده: «.. يَا فَاطِمَةُ
بِنْتَ مُحَمَّدٍ، أَنْقِذِي نَفْسَكَ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا»،
فالقرب الحقيقي من الله والفوز بمحبته ورضوانه شأن خاص بكل أحد يعززه ويقويه
بالعبادة والطاعة في السر والعلن و يثبِّته وينميه بالإخلاص لله وحده، ولا علاقة
للحسب والنسب أو المكانة الاجتماعية أو الوظيفية فيه، فربما كان أضعف الناس بين
الناس وأقلهم مكانة بينهم هو الأقرب عند الله تعالى، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ
رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ: «أَلاَ
أُخْبِرُكَ عَنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: رَجُلٌ ضَعِيفٌ،
مُسْتَضْعِفٌ ذُو طِمْرَيْنِ، لاَ يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ».
فالله تعالى ينظر إلى حقيقة القلوب وصدقها وإخلاصها، وبناء على ذلك يقرّب العبد
منه أو يبعّده، و يرفع درجته عنده أو يخفضها.
آثار الصدق والإخلاص في العبادة
ولأن
المعيار الرباني لقبول العبادة وأثرها على العبد هو الصدق والإخلاص وليس للحسب أو
النسب في ذلك نصيب، فلقد قال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ
لَأَبَرَّهُ»، لذا ربما يكون الرجل المهمش في المجتمع والذي ليس له أي مكانة بين
الناس حتى أن الناس لا يزورونه بل ولا يستقبلونه حتى لو زارهم هو، ربما يكون هو
السبب الذي يفرج الله عنهم به الفرج بالنصر أو التوسعة في المعاش أو نزول الغيث
وإحلال بركته.
وفي
القصة الماتعة النافعة التي يرويها لنا الإمام العابد الزاهد محمد بن المنكدر رحمه
الله تسلية وفائدة حول ذلك . والقصة ذكرها
ابن الجوزي في صفة الصفوة:
عن محمد بن المنكدر قال كانت لي سارية في مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم أجلس أصلي إليها بالليل، فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يُسقوا،
فلما كان من الليل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جئت
فتساندت إلى ساريتي فجاء رجل أسود تعلوه صفرة متزر بكساء وعلى رقبته كساء أصغر منه،
فقال: أي رب خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقهم فأنا أقسم عليك لما سقيتهم.
قال ابن المنكدر فقلت مجنون . قال: فما وضع يده حتى سمعت الرعد ثم
جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي، فلما سمع المطر حمد الله بمحامد
لم أسمع بمثلها قط.
قال: ثم قال: ومن أنا وما
أنا حيث استجبت إليّ ؟ ولكن عذت بحمدك وعذت بطولك.
ثم قام فتوشح بكسائه الذي
كان متزرًا به وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه، ثم قام فلم يزل
قائمًا يصلي حتى إذا أحسن الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتي الصبح، ثم أُقيمت صلاة الصبح
فدخل في الصلاة مع الناس ودخلتُ معه، فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى
انتهى إلى باب المسجد، فخرج يرفع ثوبه ويخوض الماء فخرجت خلفه رافعًا ثوبي أخوض
الماء فلم أدر أين ذهب.
فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم جئت إلى ساريتي فتوسدت إليها، وجاء فقام فتوشح بكسائه وألقى الكساء
الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي، فلم يزل قائمًا حتى إذا خشى الصبح
سجد ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلتُ معه،
فلما سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه فجعل يمشي وأتبعه حتى دخل دارًا قد
عرفتها من دور المدينة ورجعت إلى المسجد.
فلما طلعت الشمس وصليت خرجت حتى أتيت الدار فإذا أنا به قاعد يخرز
وإذا هو
إسكاف – أي؛ يعمل في صناعة الأحذية وإصلاحها- فلما رآني
عَرَفِني، وقال: أبا عبد الله مرحبًا ألك حاجة ؟
تريد أن أعمل لك خفًا ؟ فجلست فقلت: ألستَ صاحبي بارحة الأولى ؟ فاسود وجهه
وصاح بي وقال: ابن المنكدر ما أنت وذاك ؟ قال: وغضب.
قال: ففرقت والله منه وقلت أخرج
من عنده الآن.
فلما كان في الليلة الثالثة صليت العشاء الآخرة في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم أتيت ساريتي فتساندت إليها فلم يجيء !!
قال: قلت: إنا لله ما صنعتُ
!؟
فلما أصبحتُ جلستُ في المسجد حتى طلعت الشمس ثم خرجت حتى أتيت الدار
التي كان فيها، فإذا باب البيت مفتوح وإذا ليس في البيت شيء، فقال لي أهل الدار:
يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس !؟ قلتُ: ما له !؟
قالوا: لما خرجتَ من عنده أمس؛ بسط كساءه في وسط البيت ثم لم يدع في
بيته جلدًا ولا قالبًا إلا وضعه في كسائه ثم حمله ثم خرج فلم ندر أين ذهب ؟
قال محمد بن المنكدر: فما تركت بالمدينة دارًا أعلمها إلا طلبته فيها
فلم أجده رحمه الله. انتهى.
قلتُ:
غَضِب الإسكاف لأن الإمام العابد الزاهد محمد بن المنكدر عَلِم بعلاقته الخاصة مع
الله!!! فكيف بالذين ينشرون صالح أعمالهم وطاعاتهم وقرباتهم على مواقع التواصل
الاجتماعي للعامة والخاصة . وهذا لا يصح إلّا في الأمور التي سمح بها الشرع ، فالله
تعالى يقول: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ»، فلابد أن تكون العبادات والقربات خالصة لله تعالى وحده حتى يتقبلها
وتكون لها الثمرة النافعة في الدنيا والآخرة.
الخاتمة
قلتُ:
وهؤلاء الأتقياء الأنقياء الذين ظاهرهم للناس الضعف وقلة الحيلة ولكنهم في حقيقة
أمرهم أقوياء يصنعون العجب بحسن علاقتهم مع الله وقربهم منه، فهؤلاء متى أكرمتهم
الأمة أكرمها الله وأعزها ونصرها . وهؤلاء نجدهم في بيوت الله من المسارعين إلى الصلوات والخيرات
والسبّاقين بالخيرات بالرغم من قلة حيلتهم وما في أيديهم .
فإذا
أرادت الأمة التوفيق من الله والنصر
الرباني فعليها أن تعدل معهم وأن تكرمهم وتؤدي إليهم حقوقهم وتطلب منهم الدعاء لها
بأن يخلّصها الله مما هي فيه وأن ينصرها نصرًا عزيزًا مؤزرًا، فمتى فَعَلَت ذلك،
كان التوفيق الرباني حليفها وأنزل الله عليها بركات السماء وخيراتها ونفعها ببركات
الأرض وخيراتها، قال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا
يَنْصُرُ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ، وَصَلاَتِهِمْ
وَإِخْلاَصِهِمْ»، وقال: «هَلْ تُنْصَرُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ ؛
بِدَعْوَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ»، وقال: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُززَقُونَ إلاَ
بِضُعَفَائِكُم». وهذا يؤكد الوجوب على الأمة ألّا تغفل عن معركة القلوب التي
غذاؤها الطاعة والصدق والإخلاص ونتاجها التوفيق الرباني للصواب والسداد في الرأي
والرمي .
والله
الموفق والهادي إلى سواء السبيل
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه/
الباحث في الشؤون الشرعية والسياسية
تيسير
محمد تربان
فلسطين . غزة
30-1-2018م
إرسال تعليق