الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد المجاهدين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وأجمعين..
وبعد:
الثبات
على الحق مكرمة وتوفيق من الله
إن
الثبات على الدين أمر في غاية الأهمية والضرورة بل هو رأس الأمر لأن من ثبت ربح و
فاز ومن انتكس خسر وخاب، ولأن الثبات عزيز وثقيل على النفس لأنه غالبًا يجعل صاحبه
يواجه الطغاة وزبانيتهم ويتعرض لعذابهم ووحشيتهم، لزعزعت الإيمان في قلبه ولحرفه
عن دينه رغبة أو رهبة، وربما تعرض المسلم للإغراءات الدنيوية التي تجرف معها كل
قلب متردد، فتُلقي به في بيت الشطان حيث اللهو والعزوف عن طاعة الله تعالى، ولأن
القلب مخلوق متقلب كالريشة في الهواء، فربما ينزلق ويتغير في لحظة كما قال صلى
الله عليه وسلم: "إنما سُمِّي القلب من تقلُّبه، إنما مَثَلُ القلب كمَثَلِ
ريشة في أصل شجرة، يقلِّبها الريح ظهرًا لبطن"، وقال صلى الله
عليه وسلم: "لَقلب ابن آدمَ أشدُّ انقلابًا من القِدر إذا اجتمَعت
غليًا"، ولذا كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "يا مُقَلِّبَ
القُلُوبِ ثبِّتْ قَلْبي على دِينِكَ"، فقالت أُمُّ سلمة رضي الله عنها:
"يا رسُولَ اللهِ: ما لأَكْثَرِ دُعَائِكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثبِّتْ
قَلْبي على دِينِكَ ؟ قالَ: يا أُمَّ سَلَمَةَ، إنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إلاَّ
وقَلْبُهُ بينَ أُصْبُعَيْنِ مِن أَصَابعِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ
شَاءَ أَزَاغَ"، وقال أيضًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنَّ
قُلُوبَ بَني آدَمَ كُلَّهَا بينَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ
كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ"، ثُمَّ قالَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا علَى
طاعَتِكَ".
ولقد
جعل الله تعالى درجات الثبات متفاوتة بين عباده بحسب صدق العبد وإخلاصه في عبادات
القلوب والجوارح، فكما أن الإيمان درجات فكذلك إن الثبات درجات، قال الله تعالى: "يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ".
وإن
المؤمن ليتقرب إلى الله تعالى بالعبادات والطاعات بكل صدق وإخلاص حتى أن الله
تعالى يرفعه ويكرمه بأعلى درجات الثبات، فيبقى متمسكًا بعقيدة التوحيد والدفاع عن
أمة الإسلام حتى يلقى الله تعالى شهيدًا حتى وإن فصل الكفار لحمه عن عظمه أو
أذابوه في قدر يغلي، وما أروع الأمثلة في عصرنا الحاضر فهذا الشهيد العربي بن
بلقاسم بن مبارك التبسي رحمه الله تعالى وأعلى منزلته، فحق فيه قول الله تعالى: "مِّنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُم مَّن
قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا"،
فلقد جاهد وصبر على الأذى في سبيل الله تعالى،
وتحمل ما تنوء عن حمله الجبال.
لمحة
سريعة عن حياته وصبره وثباته حتى أثناء إذابته في الزيت وارتقائه شهيدًا:
الشيخ
الشهيد العربي التبسي أحد شيوخ المالكية وأعمدة الإصلاح في الجزائر وأمين عام
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، تخرج من جامعة الزيتونة في تونس سنة 1914م ثم
رحل إلى القاهرة عام 1920م ودرس العلوم الشرعية في الجامع الأزهر ، ثم عاد الشيخ
رحمه الله إلى الجزائر عام 1927م ليبدأ نشاطه الدعوي، حيث استطاع بث الدعوة
الإصلاحية وحارب البدع، وعند اندلاع الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي سنة 1954م
كان يدعمها ويحرض الناس على الجهاد في سبيل الله ويتواصل مع المجاهدين ويحثهم على
الثبات، وقد حاول الكثير من أصدقاء الإمام رحمه الله إقناعه بالخروج من الجزائر
بعد أن أصبح هدفًا كبيرًا وواضحًا للفرنسيين، فكان جوابه دائمًا: إذا كنا سنخرج كلنا
خوفًا من الموت فمن يبقى مع الشعب ؟
بل
نقل آخرون عنه أنه قال: "لو كنت في صحتي وشبابي ما زدت يومًا واحدًا في
المدينة، ولأسرعت إلى الجبل فأحمل السلاح وأقاتل مع المجاهدين"، قد علم الاحتلال
أن الشيخ العربي التبسي يتمتع بشعبية كبيرة وأنه مؤيد للجهاد وأحد محركي القواعد
الخلفية له، فأرسلوا إليه عن طريق إدارتهم في الجزائر عدة مبعوثين للتفاوض معه
بشأن الجهاد ومصيره، وبعد رفضه المستمر للتفاوض باسم الأمة وأن عليهم التفاوض مع
المجاهدين فقط، رأى المستعمرون أنه من الضروري التخلص منه، ولم يستحسنوا اعتقاله
أو قتله علنًا لأن ذلك سوف يزيد من حماس الأمة للجهاد ومن حقدها على الاحتلال
فقاموا بخطفه، و قد نقل المجاهد أحمد الزمولي عن إبراهيم البوسعادي الذي كان ضمن
تشكيلة القبعات الحمر وحضر معهم يوم اختطاف الشيخ من بيته، كما حضر مراحل إعدامه
وكان منظر الإعدام سببًا في التحاقه بالمجاهدين كما ذكر، وجاء في هذه الرواية ما
يلي:
وقد
تكفل بتعذيبه فرقة الجنود السنغاليين في الجيش الفرنسي والشيخ بين أيديهم صامت
صابر محتسب لا يتكلم إلى أن نفذ صبر "لاقايارد" -قائد فرقة القبعات
الحمر الفرنسية-، وبعد عدة أيام من التعذيب جاء يوم الشهادة حيث أُعد للشيخ قدر
كبير مليئ بزيت السيارات والشاحنات العسكرية والاسفلت الأسود وأُوقدت النيران من
تحته إلى درجة الغليان والجنود السنغاليون يقومون بتعذيبه دونما رحمة وهو صابر
محتسب، ثم طلب منهم لاقايارد حمل الشيخ العربي، فحمله أربعة من الجنود السنغاليين
وأوثقوا يديه ورجليه ثم رفعوه فوق القدر المتأجج وطلبوا منه الاعتراف وقبول
التفاوض وتهدئة الثوار والشعب، والشيخ يردد بصمت وهدوء كلمة الشهادة لا إله إلا
الله محمد رسول الله، ثم وضعوا قدميه في القدر المتأجج فأُغمي عليه، ثم أُنزل شيئًا
فشيئًا إلى أن دخل بكامله في القدر فذاب جسده الطاهر فيه وتبخر وتلاشى رحمه الله
وأسكنه فسيح جناته، وارتقى شهيدًا وحاله مع أعداء الله كما وصف الله تعالى: "قَالُوا
حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ
كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا
فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ".
رحل
رحمه الله تعالى ولسان حاله يقول: "وعجلت إليك رب لترضى"، فنعم القائد
ونعم القدوة الحسنة هو ويا لشرف من أحيا سيرته وأمثاله من عظماء الإسلام الذين ما
وهنوا ولا استكانوا ولم يرضخوا لأعداء الله يومًا، الذين قضوا حياتهم وهم رافعين
شعار العزة والكرامة إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، إما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدى.
والله
غالب على أمره وهو ولي التوفيق
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليمًا كثيرًا
كتبه:
تيسير محمد تربان، "أبو عبد الله".
فلسطين
/ غزة
8/1/2018م
إرسال تعليق