التجاوزات الأمنية في الثورات
الإسلامية .. المعضلة و الحل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا
هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" .
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً"
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً".
أما بعد:
توطئة
قبل الشروع في الموضوع وتفاصيله والحكم الشرعي فيه وآثاره الاجتماعية،
أود أن أنوّه أنني أستثني الحكومات العربية ومن على شاكلتها من الأحزاب والحركات
العلمانية والشيوعية منه، لأن مصيبتنا في هؤلاء أكبر من موضوعي هذا، لأنها في
عقائدهم ومناهجهم وأفكارهم.. إلخ.
خصصتُ الحديث عن الحركات الإسلامية هنا، لأنها هي السيف المُنتَظَر
الذي تُبنى عليه الآمال وتشرئب لرؤية انتصاراته أعناق الرجال، لذا وجب النصح
والتصويب فإن الدين النصيحة وهم محلها وأهلها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "
الدين النصيحة"، قلنا: لمن ؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين،
وعامَّتهم".
حتى أن النصح هنا يصل لحد الوجوب الشرعي وذلك من باب الأمر بالتعاون
على البر والتقوى، حيث قال تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ". والله الموفق
معنى التجسس
التجسس: هو البحث عن العورات والعيوب، وكشف
ما ستره الناس.
وهو البحث عن معايب الناس وأسرارهم التي لا يرضون
بإفشائها واطلاع الآخرين عليها.
وهو التفتيش عن بواطن الأمور وخفاياها.
تحريم التجسس على
المسلمين وآثار ذلك
قال ربنا تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا
مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ".
قال ابن جرير في تفسيره لهذه الآية: قوله: " وَلَا تَجَسَّسُوا "،
يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه،
ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره".
انتهى.
إن الخير كل الخير فيما أمر
الله ورسوله به والشر كل الشر فيما نهوا عنه، ومن المعلوم في دين الله تعالى أن مراقبة
المسلمين والتجسس عليهم أمر مُحرَّم تحريمًا قطعيًا لا نقاش فيه ولا جدال، كما أن
تجاوز حدود الله في ذلك والتعدي على المسلمين بمراقبة خصوصياتهم ومعاشهم وأحوالهم
جريمة تجلب غضب الله وتخذيله، كما تؤدي لفضح فاعلها فردًا كان أو جماعة وهذا
لاحظناه واقعًا مُعاشًا فيما يحدث مع ذلك القوم الذين شكّلوا الأجهزة الأمنية والفرق
التجسسية لمتابعة المسلمين وتتبع مجريات حياتهم، كما خوَّنوا المجتمع واعتبروه
محلًا للشبهة والظن السيء، ولذا رأينا ولاحظنا كيف خذلهم الله وجعل صفوفهم
مختَرَقة من كل عدو ولئيم وكيف فضح ما كان ستره عليهم من قبل، حتى انكشفوا على
الناس بأسوأ أحوالهم وبانت عوراتهم وانكشفت سوءاتهم، وهذا مصداق قول النبي صلى
الله عليه وسلم حيث قال: "..ولا تَتَّبِعُوا عوراتِهم -أي المسلمين-،
فَإِنَّهُ مَن اتَّبَعَ عَوراتِهم يَتَّبِع اللهُ عورتَهُ، وَمَن يَتَّبِعِ اللهُ
عورتَهُ يَفْضَحْه في بيته ". لذا وجب على الجماعات والحركات الإسلامية أن
تتق الله في تعاملها مع المسلمين وأن تُحسن الظن بهم، ولتحذر تخذيل الله لها في
الدنيا وفضحها، ولتتقِ عذابه يوم يبعث عباده يوم لا ينفع مال ولا بنون، فلقد صح في
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ".. وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى
حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي
أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ..". ولذا من أراد الفلاح والنجاح في
الدنيا والنجاة والسلامة في الآخرة فليتق الله تعالى في عباده ولا يتجاوز حدوده
معهم.
فعن زيد بن وهب قال: أُتِيَ
ابن مسعود فقيل هذا فلان تقطر لحيته خمرًا، فقال: "إنّا قد نُهينا عن
التجسُّس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به".
التعامل الأمني مع المجتمع يُفسده ويجعله متناحرًا
حديثي في هذه السطور حول خطورة التجسس على المسلمين والذي انتشر للأسف
وأصبحت تتخذه جل الجماعات الإسلامية وكأنه ضرورة شرعية أو سنة حسنة!!! وما هذا
إلّا من إيحاءات الشيطان ووساوسه، حتى باتت تتجسس على المسلمين بطريقة مشينة أدت
لزعزعة الثقة بينهم وجعلت كل واحد منهم يتعامل بحذر مع الآخر، حتى بات الكثيرون
ينقلون أخبار بعضهم البعض ولو كذبًا وافتراءً لتلك الحركات خوفًا من سطوتها أو
طمعًا فيما عندها، حتى أصبحت ظاهرة التجسس وكتابة التقارير أمر دارج و شائع وهكذا
ذهبت الثقة والألفة والمودة والطمأنينة بينهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
غضب الله يقع على الأمير والمأمور ولكن جرم الأمير أعظم
ما سبق ذكره فهو يشمل الأمير و المأمور بل في حق الأمير أكثر، فقلد
قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي
النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ"، وقال: " أَعْرِضُوا عَنِ النَّاسِ أَلَمْ تَرَ
أَنَّكَ إِذَا اتَّبَعْتَ الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ
أَنْ تُفْسِدَهُمُ ". فهذه تعاليم
ديننا على لسان نبينا عليه الصلاة والسلام، لذا لا يجوز تخوين المسلمين ومراقبتهم
والتجسس عليهم، فإن ذلك من أسباب إشاعة الفاحشة بينهم كما أنه يؤدي لزرع الكراهة
والحقد و العداوة بينهم.
ولقد قال معلمنا الأول والأكبر صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ
وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا
تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا
عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا". ولذا وجب الابتعاد عن تخوين المسلمين وانتقاصهم
والتجسس عليهم لأن ذلك يحزنهم ويؤلمهم و يشتت صفهم ويفرق جماعتهم ويجعلهم متنافرين
متناحرين.
من تتبع عورات المسلمين فضحه الله
لاشك أن ما يحدث من اختراقات كبيرة وخطيرة وما يحدث من فساد وإفساد في
قلب الحركة لهو عقوبة من الله تعالى بسبب تجسسهم على المسلمين وتتبع عوراتهم، ولا
أظن أن الأمر سيتوقف عند ذلك لأن الله بالمرصاد لهؤلاء الذين آذوا ولازالوا يؤذون
المسلمين في أمنهم وأمانهم ومعنوياتهم ونفسياتهم، كما أن ذلك من علامات ضعف
الإيمان وعدم رسوخه في قلوبهم، فلقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يَا
مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا
تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ
يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ
عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ ". ولذا وجب عدم تتبع عورات المسلمين ولا
اغتيابهم ومن يفعل ذلك فقد استحق العقاب من الله تعالى في الدنيا والآخرة.
متى يجوز التجسس على المسلم وتتبعه ؟
ثبت أن التجسس على المسلمين لا يجوز وهذا هو الأصل شرعًا، ولكن هناك
حالات استثنائية يجوز فيها ذلك بشرط أن يقوم به الثقات العدول الراسخون في الإيمان
لكي يحافظوا على المسلمين وأسرارهم، ولا يحق لأي أحد أن يقوم بهذا كما تفعل
الحركات التي لا تراعي حدود الله في ذلك حين تكلف صغار السن أو حديثي عهد بالصلاة
والالتزام بمتابعة المسلمين بل ومتابعة خيارهم بحجة المحافظة على الأمن وغير ذلك
من الهرطقات التي باتت ممجوجة حتى أنها تثير السخرية أحيانًا والاشمئزاز أحيانًا
أخرى.
قال الإمام النووي رحمه الله، في شرحه لصحيح مسلم:.. وليس للآمر بالمعروف
البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيَّره جهده،
هذا كلام إمام الحرمين.
وقال أقضى القضاة الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات،
فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان:
أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك
حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلًا خلا برجل ليقتله أو بامرأة
ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويُقدم على الكشف والبحث حذرًا من فوات
مالا يستدرك، وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار.
الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه فإن
سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار، لم يهجم عليها بالدخول لأن المنكر
ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن، وقد ذكر الماوردي في آخر الأحكام السلطانية بابًا
حسنًا في الحسبة مشتملًا على جمل من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
انتهى.
استغلال بعض قيادات الحركات لذلك لاستفزاز خصومهم وابتزازهم
كما نرى
ولكن المؤسف أن هذه الحركات تتعامل مع هذه المسألة تعامل ساذج سخيف،
حيث أنها تسلط سفهاءها وصبيانها على الأخيار والأكارم من المسلمين لمتابعتهم
ومعرفة تحركاتهم و تفاصيل حياتهم، ولكن حقيقة ما تريده ليس المعلومة بقدر ما تريد
تشويههم وإسقاطهم اجتماعيًا، وهذا أدى لتطاول كثير من سفهاء الحركات وصبيانها على
الأفاضل والاستهانة بهم بل وإهانتهم بدعوى مراقبتهم، مستعينين على ذلك بالغطاء
التنظيمي كما نرى ذلك منتشرًا حتى في المساجد للأسف.
التعامل الشرعي والطريقة السليمة للمتابعة وتوثيق الأخبار
أو نفيها
أما التعامل الشرعي والطريقة السليمة للمتابعة وتوثيق الأخبار أو
نفيها، فهو أن يقوم بذلك أصحاب السبق في الالتزام والصدق في الكلام، وذلك يكون بعد
شهادة شاهد عدل صادق أمين على أن فلانًا فعل جريمة أو يخطط لفعلها يقينًا، بشرط ألّا يكون بين الشاهد
والمشهود أي مشاكل أو منافسات أوملاسنات حتى لو خفيَّة، لأنه في هذه الحالة ربما
أراد الشاهد أن يتشفَّى وينتقم من المشهود عليه كما يحصل ذلك عندنا كثيرًا، ولذا
نقول حين يكون الشاهد عدل صادق أمين يجوز المراقبة بناءً على معلوماته ولكن المراقبة
تكون من خلال الأمينين والثقات الصادقين، أما حالة الفوضى التي نراها من قيام الحركات
بتكليف سفهائها و صبيانها بمراقبة الشيوخ والدعاة وأهل العلم والمصلحين بدعاوى
باطلة ساذجة وبحجج واهية لا أصل لها، فإن هذا حرام شرعًا وعار عرفًا.
الطرق السليمة للحفاظ على المقاومة وأسرارها
لقد أرشدنا الله تعالى لطريقة العمل في الأمور الأمنية والسرية التي
لا نريد أن يعلمها بها أحد فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ
أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا". إذن، فالمطلوب
هو مراعاة الواقع الميداني والتحرك فرادى وجماعات بحسب الحاجة والحالة، وبحسب ما
يمكِّن من التمويه أو التخفي والتحرك بعيدًا عن أعين الناس، هكذا يتم تلاشي خطر
المتربصين، أي بأخذ الاحتياطات اللازمة لا بتخوين المسلمين ومراقبتهم، ففي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "استعينوا
على إنجاح الحوائج بالكتمان..". والله
خير الحافظين.
وكذلك فإن مما يساعد على إتمام العمل بنجاح وسريّة، هو زرع الثقة في نفوس
المسلمين والاهتمام بأمورهم وتعليمهم واطلاعهم على خطورة تتبع أسرار المسلمين أو
إفشائها وعقاب الله في الدنيا والآخرة لمن يفعل ذلك، فإن هذه الطريقة هي الشرعية
والسليمة للحفاظ على العمل وسريته، أما أسلوب التخوين والمراقبة فإنه أسلوب يؤدي
للكره والحقد والتشرذم الاجتماعي، وهذا يؤدي إلى إفشاء الأسرار وإضاعة الجهود..
إلخ، وهذا من أهم أسباب التراجع الميداني الذي نلاحظه.
فرعاية عموم المسلمين ومراعات مشاعرهم ومعنوياتهم ضرورة شرعية وثورية،
وركيزة أساسية لتحقيق النصر المنشود، فهم الذين نصروا الأنبياء والرسل على مدار
التاريخ حيث أنهم أمدوهم بأموالهم وأنفسهم وأبنائهم ولم يبخلوا بذلك، كما أنهم
ناصروا كل جهاد قام لنصرة الدين وأهله أو مقاومة قامت في وجه الغزاة لدحرهم. فمن
أكرمهم أكرموه ونصروه ومن خوّنهم وجعلهم محل الشبهة تركوه وشأنه وهذا سيؤدي لتراجعه
وهزيمته تدريجيًا ومع الأيام، كما رأينا ذلك بأعيننا ولاحظناه ميدانيًا وواقعًا
مُعاشًا. والله ولي التوفيق
والله من وراء القصد
كتبه/ الباحث في الشئون الشرعية والسياسية
تيسير محمد تربان
أبو عبد الله
فلسطين . غزة
5-12-2017م
إرسال تعليق