فضل الإصلاح بين الناس
الحمد
لله القائل: " إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ".
والقائل: " فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ".
والصلاة والسلام على النبي الأمين القائل: "كُلُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ مَالُهُ، وَعِرْضُهُ، وَدَمُهُ، حَسْبُ
امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ".
والقائل: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل
مسلم".
والقائل:
" ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى، قال: "صلاح
ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة".
وبعد
أمر
الله تعالى المسلمين بالتحاب والتراحم فيما بينهم، وحثهم على السماحة والألفة ورغّبهم
بالرفق واللين، كما حرّم النار على كل هيّن ليّن سهل قريب من الناس، كما قال صلى
الله عليه وسلم: " حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ
قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ".
وجعل الله الصلح بين المسلمين من أعظم الطاعات
والقربات إليه وذلك للحفاظ على دماء المسلمين وحدتهم ورص صفوفهم، ليكونوا أمة
واحدة متكاثفة.
والإصلاح رسالة الأنبياء، كما قال الله تعالى على
لسان عبده ونبيه شعيب صلى الله عليه وسلم: "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ
مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ".
ولعظيم شأن الإصلاح بين الناس رغّب الله في التناجي
بينهم لأجله، مع أن التناجي مذموم في غيره، قال تعالى:" لَا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا".
قال الطبري رحمه الله تعالى: "القول في تأويل
قوله: "لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ
أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا"
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "لا خير في
كثير من نجواهم"، لا خير في كثير من نجوى الناس جميعًا، إلا من أمر بصدقة أو
معروف، و"المعروف" هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر
والخير، "أو إصلاح بين الناس"، وهو الإصلاح بين المتباينين أو
المختصمين، بما أباح الله الإصلاح بينهما، ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع
الكلمة، على ما أذن الله وأمر به. انتهى.
وقال القرطبي في قول الله تعالى: {وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ} – هو- لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول
به الخلاف خير على الإطلاق.
ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين
الرجل وامرأته في مال أو وطء أو غير ذلك. "خير" أي خير من الفرقة، فإن
التمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر، وقال عليه السلام في البغضة:
"إنها الحالقة " يعني حالقة الدين لا حالقة الشعر. انتهى.
بعض فضائل الإصلاح بين الناس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ
سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ
الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى
دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ،
وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى
الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ".
وعنه
أيضاً رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما
عَمِلَ ابن آدم شيئاً أفضل من الصلاة، وصلاح ذات البين، وخلق حسن".
وعنه
أيضًا رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أفضل الصدقة
إصلاح ذات البين"
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا
أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ"
قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ
البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ".
وَيُرْوَى
عَنِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "هِيَ الحَالِقَةُ
لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ".
وليس
المقصود في الحديث صلاة الفرض التي أوجبها الله على عباده، ولكن المقصود هو صلاة
السنن.
إباحة
الكذب للإصلاح بين الناس
عن
أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس
الكذّاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا"، وقالت: لم أسمعه
يرخّص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: في الحرب, والإصلاح بين الناس, وحديث
الرجل امرأته, وحديث المرأة زوجها".
وفي حديث آخر، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ، قَالَتْ: مَا
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ
مِنَ الْكَذِبِ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا أَعُدُهُ كَاذِبًا، الرَّجُلُ يُصْلِحُ بَيْنَ
النَّاسِ، يَقُولُ: الْقَوْلَ وَلَا يُرِيدُ بِهِ إِلَّا الْإِصْلَاحَ، وَالرَّجُلُ
يَقُولُ: فِي الْحَرْبِ، وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ، وَالْمَرْأَةُ
تُحَدِّثُ زَوْجَهَا".
تذكرة
وعظة للمتخاصمين
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ،
فَيَغْفِرُ اللَّهُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ إِلَّا رَجُلًا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحَنًا، فَيُقَالُ: انْتَظِرُوا بِهِمَا حَتَّى
يَصْطَلِحَا".
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا
يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ
ثَلَاثٌ، فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ
فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ
بِالْإِثْمِ".
وقال صلى الله عليه وسلم قال: "لا تباغضوا، ولا
تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق
ثلاث ليال، يلتقيان يصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه أنه قال: يا رسول
الله، الرجل من قومي يشتمني وهو أدنى مني نسبًا، ترى أن أنتصر منه ؟ فقال: "إن
المستبين شيطانان، يتكاذبان ويتهاتران".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
الألد الخصم هو الرجل كثير الخصام والجدال بالباطل،
فكلما أتيته بحق من طريق رده بباطل بطرق أخرى،
وهو شديد الخصومة، وكثير الشكوى على الناس بالباطل،
دائم افتعال المشاكل، لا يقبل الحق، سيء الفعال، كذاب.
ولذلك كان من شر الناس منزلة عند الله، رجل اتقاه
الناس لشره وفحشه، كما قالت عائشة رضي الله عنها، أَتَى رَجُلٌ فَاسْتَأْذَنَ
عَلَى النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيه وسَلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيه
وسَلم: بِئْسَ أَخُو الْقَوْمِ وَابْنُ الْعَشِيرَةِ هَذَا فَلَمَّا دَخَلَ
أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَحَدَّثَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ:
يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ بِوَجْهِكَ
وَحَدِيثِكَ فَقَالَ: إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، رَجُلاً اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ، أَوْ قَالَ: لِفُحْشِهِ".
ولذا لزم المسلم أن يكون طيب النفس، جميل الحديث،
سهل المعاملة، سمحًا عند مخالطته للناس، مسامحًا متجاوزًا عما يصدر من المسلمين في
حقه، ليكون من المحسنين الذين يحبهم الله تعالى القائل: "الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على
محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه:
تيسير محمد تربان
أبو عبد الله
فلسطين – غزة
17-7-2010م
إرسال تعليق