الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
وبعد
توطئة
قال
الله تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام: "وَقَدْ أَحْسَنَ بِي
إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ"
السجن
أشكال متنوعة، منها حبس البدن والعقيدة والفكر وهي أصعب أنواع السجن، ومنها حبس
الإرادة وتحجيمها وهي أقل من النوع الأول، ومنها حبس الطموح وتقييدها...إلخ،
والسجن مصيبة ابتلى الله بها عباده المؤمنين ليختبرهم أيهم أعظم صبرًا وأحسن
عملًا.
عظم
بلاء السجن
ومن
عظم بلاء السجن وآلامه وهمومه وأحزانه قال سيدنا يوسف صلى الله عليه وسلم:
"وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ"، خصص سيدنا يوسف
السجن هنا، مع أنه تعرّض في حياته لما هو أثقل على النفس وأخطر على الحياة من
السجن، حين ألقاه إخوته في البئر، ففي هذه المصيبة ثقل على النفس عظيم، إذ أن
الذين ألقوه في البئر هم إخوته الذين تربى وعاش معهم في كنف والد واحد وفي بيت
واحد، وذلك بعد أن خدعوا أباهم واصطحبوه معهم في سفرهم، وأما تعرضه للخطر المميت،
فلأن إخوته ألقوه في البئر و هو عميق فكان من المحتمل أن يموت وهو ساقط فيه، كما
أنه تعرض لخطر ظلمة البئر ووحشته ،وكذلك ألم الغربة وفراق الأهل والأحبة وفتنة
زوجة الملك وخطر المجهول الذين ينتظره
عليه الصلاة والسلام، إلا أنه عليه الصلاة والسلام عندما ذكر فضل الله
تعالى، خصصه بذكر الخروج من السجن، وما هذا إلا لعظم بلاء السجن وما يجر معه من
ويلات، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي
مِنَ السِّجْنِ".
أثر
فضل الله تعالى على السجين ونعمة الإيمان
ومن
فضل الله تعالى ونعمه على عباده أن جعل تسلية المؤمن وانبساطه وانشراح صدره سواء
في السجن أو غيره من الابتلاءات، مقرونًا بطاعته والتزام أوامره والمواظبة على
ذكره تعالى فقال:" الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ
اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ".
وسلّى
الله تعالى السجين وكل مبتلى وشرح صدره بقوله: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"، فإن لم يتحصّل على ذلك اليسر في
الدنيا كان في الآخرة أعظم أجرًا، فمن حصل على يسر الآخرة فقد حصل على المبتغى
والمرتجى، ولا خوف عليه بعد ذلك ولا هو يحزن خالدًا مخلدًا في رضوان الله ونعيمه،
والعاقبة للمتقين.
فكاك
أسرى المسلمين واجب على مسلم
للأسير
المسلم حق على كل مسلم قادر على تخليصه أو المساعدة في ذلك فعليه أن يسعى ولا
يتخلّف أبدًا، فإن تخلف أثم على تركه ما أمرتنا به شريعتنا الغرّاء بفكاك الأسير
كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُكُّوا العَانِيَ
وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ"، ففكاك الأسرى واجب على المسلمين كل على قدر وسعه،
فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:"
فكاك الأسارى من أعظم الواجبات وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم
القربات".
وفي
الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ
الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ"، والأسر من أعظم الكرب، فمن نفَّس عن أخيه المسلم بفكاكه من
الأسر نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ولا قياس بين تنفيس الله وتنفيس
عبده، وكذلك لا قياس بين التنفيس عن أسير في هذه الدنيا الفانية والتي هي دار ممر
لا دار مستقر وتنفيس الله كربة من كرب يوم القيامة، والذي قال عنه ربنا تعالى أن
مقداره خمسين ألف سنة و يجعل الولدان شيبًا ويفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه
وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
وفي
الأثر قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: "لَأَنْ أَسْتَنْقِذَ
رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ".
من
أهم أسباب خذلان الأسرى وعدم السعي الجاد لفكاكهم
إن
ما نراه اليوم من تقاعس وتخاذل عن نصرة الأسرى ما هو إلا نتاج تكالبنا على الدنيا
ولعاعها الزائل، والطمع والتنافس على متاعها القليل الحقير، وهي التي لا تساوي عند
الله جناح بعوضة، حتى أصبحت أكبر همنا وأعظم طموحنا، وهي الهدف والغاية التي
نتقاتل عليها وفي سبيل الحصول على أكبر قدر منها ! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكذلك
كرهنا الموت في سبيل الله تعالى وتركنا ميادين القتال وساحات النزال، الذي جعل
الله فيها نيل عزتنا وكرامتنا، والتي من بركاتها
فكاك الأسرى، ولكن الحال كما أخبرنا
ثَوْبَانَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا
تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا" فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ
نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ
غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ
الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ"
فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا،
وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".
كيف
نخلّص أسرانا من السجون
إذا
أرادت الأمة لدينها رفعة ولحياتها كرامة ولأسراها حرية، فلابد لها من حمل السلاح
والقتال في سبيل الله كل بحسب مقدرته، ولابد من بذل الغالي والرخيص من أجل ذلك،
ولابد من تقديم الدين على المنافع الخاصة، والآخرة على الدنيا، والاستجابة لقول
الله تعالى طلبًا للأجر وفرارًا من الوزر: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا
تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
فهذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائدنا وقدوتنا لم يتخلى يومًا عن نصرة المسلمين
ولو للحظة، فكان في المعارك بطلًا شجاعًا يُتقى به حر المعارك إذا احمرّ البأس،
كما في الحديث عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "كُنَّا إِذَا
احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنَ
القَوْمِ مِنْهُ".
ولقد
كان صلى الله عليه وسلم سبّاقًا في الدفاع عن الأمة حريصًا على أمنها وفكاك
أسيرها، فكان يغزو بنفسه ويدافع بنفسه ويُغيث بنفسه، فلم يكن اتكاليًا أو مترددًا
في التلبية إذا ناداه منادي الجهاد أو استنجد به أحد من العباد، فها هو ذات يوم
يخرج مسرعًا صلى الله عليه وسلم ويطير على متن فرس دفاعًا عن المسلمين بمجرد سماعه
لمستغيث يستغيث من بعيد، حتى قبل أن يعرف من هو المستغيث ومما يستغيث، كما أخبرنا
بذلك أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ
النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ. وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
لَيْلَةً، فَانْطَلَقُوا قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ
لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ
يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَنْ تُرَاعُوا" يَرُدُّهُمْ، ثُمَّ
قَالَ: لِلْفَرَسِ "وَجَدْنَاهُ بَحْرًا" أَوْ "إِنَّهُ
لَبَحْرٌ" قَالَ حَمَّادٌ: وَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ أَوْ غَيْرُهُ قَالَ:
"كَانَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ يُبَطَّأُ فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ
الْيَوْمِ".
ولقد
كان صلى الله عليه وسلم شهمًا عالي الهمة لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار وأسير
مسلم واحد مأسور عند الكفار حتى يخلصه منهم، فجدير بنا أن نقتدي به صلى الله عليه
وسلم حق الاقتداء، وألا ننام على الضيم ولا على ظلم أحد من المسلمين مهما كبر شأنه
أو صغر، فعنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ
ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِى عُقَيْلٍ فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم رَجُلاً وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِى الْوَثَاقِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا
مُحَمَّدُ فَأَتَاهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" مَا شَأْنُكَ؟".
فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتَنِى وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَ الْحَاجِّ؟ فَقَالَ إِعْظَامًا
لِذَاكَ:" أُخِذْتَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ". ثُمَّ انْصَرَفَ
عَنْهُ فَنَادَاهُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَقِيقًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "
مَا شَأْنُكَ؟". فَقَالَ: إِنِّى مُسْلِمٌ. قَالَ: "لَوْ قُلْتَهَا
وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الفَلاَحِ". ثُمَّ انْصَرَفَ
عَنْهُ فَنَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ. فَأَتَاهُ فَقَالَ: "مَا
شَأْنُكَ؟". فَقَالَ: إِنِّى جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِى وَظَمْآنُ فَاسْقِنِى
قَالَ: "هَذِهِ حَاجَتُكَ". قَالَ: فَفُدِىَ بِالرَّجُلَيْنِ.
فلابد
أن تتقدم الأمة إلى ساحات الجهاد وتقاتل أعداءها ولتجتهد أن تخطف منهم الأسرى حتى
تتمكن من فكاك أسراها من سجون المعتدين الظالمين، وإلا ضرب الله عليها ذلًا لا
يرتفع بالمال الكثير ولا العويل الطويل، فإن الكرامة مقرونة بنواصي الخيل ومنازلة
الأعداء والاستعلاء عليهم والسعي الحثيث للنيل منهم، فإن الأمة متى تركت الجهاد
وقع عليها البلاء وتناهشها الأعداء وأصبحت نهبة لكل طامع.
والله
من وراء القصد
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
كتبه/
الباحث في الشؤون الشرعية والسياسية
تيسير
محمد تربان
أبو
عبدالله
فلسطين
– غزة
22-7-2013م
إرسال تعليق