بسم
الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد:
توطئة الموضوع:
حرب
العصابات هي أسلوب قتالي يقوم به المستضعفون ضد المعتدين عليهم بغض النظر عن عقيدة
أو هوية أي منها.
وتختلف
حرب العصابات عن الحرب النظامية التقليدية اختلافًا كبيرًا، فهي تعتمد على السرية والرصد
والتخفي والكمائن والهجمات المباغتة ثم الانسحاب السريع والاختفاء، وهدفها ميدانيًا هو
استنزاف العدو استنزافًا تدريجيًا لا حسم المعركة ميدانيًا من أول جولة.
ولكي
تحقق حرب العصابات أهدافها أو كثيرًا منها فلابد من إيقاع الخسائر البشرية والمادية
بالأعداء بما يؤدي لاستنزافهم تدريجيًا حتى تخور قواهم لدرجة تُمكِّن المستضعفين من تحصيل ما يريدون أو
كثيرًا منه، فتحقيق الإنجازات خاضع لمهارتهم وقوتهم في إدارة تطورات الأحداث
القتالية والمناورات السياسية.
بصدق القيادة ووفاء الجند، يكون النصر والتمكين:
حرب
العصابات هي القوة المؤثرة والمعقدة التي تملكها مجموعات صغيرة متفرقة ذات هدف
موحد، لردع أو استنزاف جيش نظامي كثير العدد وقوي العتاد، ولقد أثبتت هذه الطريقة
القتالية فاعليتها و نجاحها حتى أنها جعلت كيانات كبيرة ومتماسكة تستسلم وتخضع
وتستجيب لمطالب مجموعات صغيرة، كما حدث مع الصحابي الجليل أبي بصير رضي الله عنه
حين استنزف الكفار بمجموعات صغيرة وجعلهم يتراجعون ويتنازلون عن شرطهم الذي
اشترطوه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: أن يَرُدَّ النبي صلى الله عليه وسلم،
كل من يأتيه من قريش مسلمًا وألا تَرُدَّ قريش من يأتيها مرتدًا عن الإسلام، كما
ثبت في حديث الحديبية الطويل من قصة أبي بصير من رواية عروة بن الزبير رضي الله عنهما،
حيث قال:
"...
ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ،
فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي
طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: العَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ
إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا
يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ:
وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ
الآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ،
ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ
مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى المَدِينَةَ،
فَدَخَلَ المَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ: «لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا» فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي
وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ
وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ
أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ
عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ البَحْرِ
قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي
بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ
بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا
يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلَّا اعْتَرَضُوا
لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ،
لَمَّا أَرْسَلَ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ
الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ
مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} ...".
الإخفاق بسبب الضغوطات الخارجية والخيانات
الداخلية:
نجح
الشهيد عمر المختار ومعه ثلة من أبناء الإسلام العظيم باستنزاف الجيش الإيطالي
مرحليًا بحرب عصابات موفقة، إلّا أن حالة التخبط التي كانت تعيشها الأمة عمومًا
بما فيها ليبيا، وكذلك الخيانات -الداخلية والخارجية- التي تعرّض لها المجاهدون المخلصون
بقيادة عمر المختار، والطعنات المتتالية في ظهورهم، وتواطؤ تجار الدين والوطنية مع
الإيطاليين ضدهم، كل ذلك أدى في نهايته لحسم المعركة لصالح الإيطاليين وعملائهم، ولكن
ذلك لن يدوم وسيزول قريبًا بإذن الله، فالأمة نهضت واستنفرت ولن تقبل إلا بالتحرير
التام وإقامة دولة الإسلام.
وسيظل
الشهيد عمر المختار وصحبه رحمهم الله أحياء في قلوب الأحرار.
وبما أن الحديث أخذنا إلى حيث الشهيد عمر
المختار، فإنني أذكر هنا على سبيل الفخر والاعتزاز نهاية هذا البطل الأسطورة والتي
سطرها التاريخ بأحرف من نور ستبقى تنير الطريق للمجاهدين المخلصين حتى يأذن الله
بالفرج من عنده ويكرمهم بالنصر المبين. ويقولون متى هو ؟ قل عسى أن يكون قريبًا.
ففي
عام 1931م وبعد يومين من الإبداع في الصمود والتحدي، وقع الشهيد عمر المختار أسيرًا
في يد الإيطاليين، وذلك بعد ملحمة تاريخية بطولية، حينها سارع الإيطاليون بعقد محكمة
صورية له تم الحكم عليه فيها بالإعدام شنقًا، و قبيل إعدامه قال للإيطاليين ومن معهم من الخونة والمندسين
كلمات سطرها التاريخ في أنصع صفحاته، ولازالت الأجيال تتناقلها على سبيل العزة
والاستلهام البطولي: "نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون
عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من
عمر شانقي".
وهنا تجلى صبر المخلصين وظهرت خيانة الخونة
والمجرمين الذين تواطؤوا على بلدهم وأهلها لصالح المحتل الغاشم. و ها هي الثورة
الليبية نهضت من جديد وستبقى مستمرة بإذن الله، حتى تعود ليبيا حرة مصونة يعلوها
شرع الله ويسودها العدل.
الإخفاق بسبب استعجال النتائج وقطف الثمار:
خاض
أبطال فلسطين معارك ميدانية كثيرة ضد الاحتلال الصهيوني و الذي وقفت ولازالت تقف
معه أمريكا وأوروبا وروسيا، ولايزالون وخلفهم المخلصون والصادقون من الأمة يواصلون
جهودهم وجهادهم في طريقهم نحو النصر والتمكين.
وفي
عام 1987م اشتعل الجهاد وعم ربوع فلسطين ( وذلك تحت مسمى انتفاضة ال87) و بدأت حرب
العصابات تنتشر وتتكاثر وتقوى وتتمركز تدريجيًا، إلا أن الاحتلال الصهيوني بدد
جهودها وقزّم نتائجها حين استدرج منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسرعرفات رغبًا
ورهبًا وخدعهم باتفاق أوسلو والذي يمثل هزيمة ساحقة لمنظمة التحرير وكل من أيدها
وشجعها على التوقيع على تلك المهزلة.
وفي عام 2000م ( وتحت مسمى انتفاضة الأقصى ) تجدد
الجهاد واشتد في كل مكان و حمي الوطيس ما أدى لقتل أعداد كبيرة من عصابات الاحتلال
الصهيوني وهروب أكثر من مليون محتل منهم خارج فلسطين المحتلة، وذلك حين ضربت
المفخخات والاستشهاديون قلب المدن الصهيونية وتزلزل أمنها، وهكذا واصلت الثورة تقدمها
من نصر إلى نصر، إلى أن تَدخَّل الملك عبد الله السعودي وقدّم مبادرته المشؤومة عام
2002م، والتي كانت خنجرًا مسمومًا أدى تدريجيًا للالتفاف على الثورة وشعلتها.
وهكذا بدأت نار الجهاد تخبو شيئًا فشيئًا، وذلك
بسبب تخذيل الحكومة السعودية ومن معها من حكام العرب وخيانة السلطة ومن لف لفيفها،
وسذاجة وسطحية تفكير قيادة المقاومة حينها، حيث تم استدراجها تدريجيًا للمشاركة في
سلطة أوسلو والتعامل مع مخرجاتها.
ولكن كل ما سبق لن يكون أكثر من كبوة فارس و استراحة
مقاتل قصيرة ومن ثم ستشتعل الأرض نارًا تحت أقدام الغزاة المحتلين بإذن الله
تعالى.
أقول
ذلك: لأن كل أسباب الثورة مهيأة ولم يتبق لاشتعالها أقوى من ذي قبل إلا موانع
بسيطة وهي على وشك التلاشي.
وستكون
أهم أهداف هذه الثورة المنتظرة هي: التحرر من الغزاة والطغاة وتحكيم شرع رب الأرض
والسماء.
الخلاصة:
من
يتتبع كل ما سبق يلاحظ كيف نجح النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة مرحلة ما قبل
صلح الحديبية وأثناء قيام أبي بصير والصحابة رضي الله عنهم بحرب عصابات ضد الكفار،
وكيف استفاد منها ميدانيًا وسياسيًا، وكيف أخفقت الأمة الآن و لم تستفد من حروب
العصابات والتي لازالت تخوضها منذ عقود، يعلم يقينًا أن من أهم أسباب عدم توفقنا
وتحقيقنا انجازات ميدانية مركزية قوية، هو عدم توكلنا على الله التوكل الذي يجلب
معه معية الله وتوفيقه ونصرته، وكذلك تشرذمنا وعدم توحدنا على كتاب ربنا تعالى خلف
قيادة ربانية جهادية واحدة موحدة، وكذلك الانجرار خلف الحلول السياسية ضمن أطر
ودوائر النظام العالمي الظالم والذي لازال يمثل الصخرة الأكبر في وجه تحررنا من
الغزاة والطغاة وأذنابهم.
أستثني
مما سبق بعض الفتوحات والانتصارات التي يحققها المجاهدون في أفغانستان، والقليل من
الفتوحات التي يحققها بعض المجاهدين هنا أوهناك والتي تُعتبر قليلة قياسًا على ما
تعانيه الأمة وتُقَدِّمه من تضحيات وآلام.
لذا يجب على الأمة جميعًا أن تعتصم بحبل الله
وأن تتخلى عن حظوظ النفس و تتنازل لبعضها و ترص صفوفها خلف قيادة ربانية موحدة، حتى
تتمكن من نصرة الإسلام وأهله ومجاهدة أعدائها على النحو الذي يحقق النتائج
الإيجابية المرجوَّة بأقل الخسائر. والله ولي التوفيق.
كتبه:
الباحث في الشؤون الشرعية والسياسية
تيسير
محمد تربان
فلسطين
. غزة
السبت/
4-11-2017م
إرسال تعليق